تزكية النفس سبيل الفلاح
يقول الحق تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)" سورة الشمس.
مفهوم التزكية
التزكية لغة تعني النماء والطهارة، وفي الإصطلاح الشرعي هي: تطهير النفس من الرذائل والأمراض، وتنميتها بالفضائل والإيمان والعمل الصالح. وهي طريق الاستقامة في الدنيا، وسبب الفلاح والنجاة في الآخرة، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9-10].
والتزكية مقصد من مقاصد بعثة الرسل والأنبياء عموماً قال ابن القيم: "فإن تزكية النفوس مُسلَّم إلى الرسل، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة، وتعليما وبيانا، وإرشادا، لا خلقا ولا إلهاما، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم" (مدارج السالكين)، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم.
وهي الغاية من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ويُزَكِّيهِمْ" آل عمران 164، فهو يزكيهم بمعنى: يدلهم على ما يزكوا به أنفسهم، وليس هو من يزكيهم، "ولكن الله يزكي من يشاء" النور الآية 21.
فالنبي عليه الصلاة والسلام حاز على التزكية الربانية في إيمانه وعبادته وخلقه وأرسله الله لتزكية الأمة وتطهير النفوس من الأمراض وقد عمل النبي عليه الصلاة والسلام في أصحابه على تزكية قلوبهم، إذ ربّاهم بالإيمان والعبادات والأخلاق، فكانوا نموذجًا عمليًا للتزكية وكانوا صفوة الأمة.
أركان التزكية:
الركن الأول: التخلية
من القواعد المشهورة في علم التزكية ما دلت عليه النصوص النبوية من أن "التخلية تسبق التحلية"، أي: تخلية النفوس من العيوب والآفات قبل تحليتها بالفضائل والمكرمات.
وقد عمل النبي ﷺ أولا على تخليص أصحابه من أدران الجاهلية، فكان ذلك الركن الأول في بناء التزكية.
ومن صور التخلية:
- التخلية من الكِبر والجاهلية
عن المعرور قال: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة، وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم"، صحيح البخاري. ومنذ ذلك اليوم تخلّى أبو ذر عن كل مظاهر التكبر والتفاخر بالجاهلية حتى ساوى بينه وبين غلامه في الملبس.
- التخلية من الغضب
الغضب بوابة للشرور ومفتاح للظلم والعدوان، عن أَبي هريرة : أَنَّ رَجُلًا قَالَ للنَّبِيِّ ﷺ: أَوْصِني، قَالَ: "لا تَغْضَبْ"، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: "لا تَغْضَبْ" رواه البخاري. وهذا أصل في تهذيب النفس وضبطها.
- التخلية من حب الفواحش
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: "إن فتى شابًّا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه! فقال: "ادنه"، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: "أتحبه لأمك؟"، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم"، قال: "أفتحبه لابنتك؟"، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم"، قال: "أفتحبه لأختك"، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم"، قال: "أفتحبه لعمتك؟"، قال: لاوالله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لعمَّاتهم"، قال: "أفتحبه لخالتك"، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم"، قال: فوضع يده عليه، وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصِّن فَرْجَه"، فلم يكن بعد - ذلك الفتى - يلتفت إلى شيء؛ رواه أحمد بإسناد صحيح.
جاءت النصوص النبوية بالتأكيد على تطهير النفس من أمراض كثيرة، منها:
- الشرك والرياء.
- حب الدنيا والهوى.
- الحسد والكبر.
- الشح والغرور وحب الرياسة.
- الغضب المذموم والتسويف.
- الغيبة والطمع والهلع.
الركن الثاني: التحلية
بعد التخلية من الرذائل والآفات، يأتي دور التحلية بالفضائل، أي تزيين النفس بمكارم الأخلاق، والسمو بها إلى كل خير وعمل صالح متصل بالإيمان والعبادة وحسن المعاملة.
ومما روي في هذا الباب عن أبي ذر جندب بن جنادة، وأبي عبدالرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالِقِ الناس بخُلُقٍ حسنٍ"؛ رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ: حسن صحيح. فجمع هذا الحديث بين التقوى: وهي أساس علاقة العبد بربه، وحسن الخلق، وهو أساس علاقته بالناس، والتوبة والعمل الصالح، وهما أساس تزكية النفس من الذنوب.
تتم التحلية بعد التخلية بوسائل متعددة، منها:
- الإيمان الصادق: فهو أصل كل تزكية.
- العبادات: كالذكر، والصلاة، والصيام، والصدقة، لما لها من أثر في تطهير القلوب.
- الأخلاق الحسنة: كالصدق، والحياء، والعفو، وحسن الظن.
- الصحبة الصالحة: تعين على الخير وتبعد عن الرذائل.
- الاستغفار والتوبة: لتجديد النقاء القلبي بعد كل زلة.
طرق التزكية
تتحقق تزكية النفس بعد الإيمان بالله واتباع هدي نبيه ﷺ بوسائل عملية متواصلة، من أهمها:
- مجاهدة النفس: قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69]، فلا تُزكّى النفس إلا بالصبر على مجاهدتها وحملها على الطاعة.
- إصلاحها ومحاسبتها: وذلك بمراجعة النفس وكشف عيوبها، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا».
- الاجتهاد في العبادات: فالفرائض ثم النوافل أعظم ما يطهر النفس ويقربها من الله.
- دوام مراقبة الله تعالى: باستحضار قربه واطلاعه، قال ﷺ: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" صحيح مسلم.
- تذكر الموت وقصر الأمل: فذكر الموت يردع النفس عن الغفلة، وقصر الأمل يدفعها للعمل وعدم التسويف.
- ترك المحرمات: لأن ترك المعاصي أساس التخلية، وهي سبب ظلمة القلب وقسوته.
- فعل الواجبات: فهي عمود التزكية، ولا يقوم بناء النفس إلا بأداء ما فرض الله.
- المبادرة إلى التوبة: حتى لا تراكم الذنوب على القلب وتغلق أبواب النور.
- لُزوم الاستغفار: قال ﷺ: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" رواه مسلم.
خاتمة
إن التزكية سبيل النجاة في الدنيا والآخرة، وهي طريق الأنبياء والمرسلين، وواجب على كل مسلم أن يسعى لتطهير نفسه من الأدواء والآفات، ثم تحليتها بالفضائل والقربات. وقد لخص القرآن هذا الطريق في قوله تعالى:﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9-10]
فالفلاح كل الفلاح في تزكية النفس، والخيبة كل الخيبة في إهمالها وإفسادها.
